الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم
وقال ابن عطية: يجوز أن يكون الطرائق بمعنى المبسوطات من طرقت الحديد مثلا إذا بسطته وهذا لا ينافي القول بكريتها، وقيل: سميت طرائق لأن كل سماء طريقة وهيئة غير هيئة الأخرى، وأنت تعلم أن الظاهر أن الهيئة واحدة، نعم أودع الله تعالى في كل سماء ما لم يودعه سبحانه في الأخرى فيجوز أن تكون تسميتها طرائق لذلك {وَمَا كُنَّا عَنِ الخلق} أي عن جميع المخلوقات التي من جملتها السموات السبع {غافلين} مهملين أمره بل نفيض على كل ما تقتضيه الحكمة، ويجوز أن يراد بالخلق الناس، والمعنى أن خلقنا السموات لأجل منافعهم ولسنا غافلين عن مصالحهم، وأل على الوجهين للاستغراق وجوز أن تكون للعهد على أن المراد بالخلق المخلوق المذكور وهو السموات السبع أي وما كنا عنها غافلين بل نحفظها عن الزوال والاختلال وندبر أمرها، والإظهار في مقام الإضمار للاعتناء بشأنه، وإفراد الخلق على سائر الأوجه لأنه مصدر في الأصل أو لأن المتعدد عنده تعالى في حكم شيء واحد.{وَأَنزَلْنَا مِنَ السماء مَاء} هو المطر عند كثير من المفسرين، والمراد بالسماء جهة العلو أو السحاب أو معناها المعروف ولا يعجز الله تعالى شيء، وكان الظاهر على هذا منها بدل {السماء} ليعود الضمير على الطرئق إلا أنه عدل عنه إلى الإضمار لأن الإنزال منها لا يعتبر فيه كونها طرائق بل مجرد كونها جهة العلو، وتقديم الجار والمجرور على المفعول الصريح للاعتناء بالمقدم والتشويق إلى المؤخر، وقوله تعالى: {بِقَدَرٍ} صفة {مَاء} أي أنزلنا ماء متلبسًا بمقدار ما يكفيهم في حاجهم ومصالحهم أو بتقدير لائق لاستجلاب منافعهم ودفع مضارهم، وجوز على هذا أن يكون في موضع الحال من الضمير، وقيل: هو صفة لمصدر محذوف أي إنزالًا متلبسًا بذلك، وقيل: في الجار والمجرور غير ذلك {فَأَسْكَنَّاهُ في الأرض} أي جعلناه ثابتًا قارًا فيها ومن ذلك ماء العيون ونحوها، ومعظم الفلاسفة يزعمون أن ذلك الماء من انقلاب البخار المحتبس في الأرض ماء إذا مال إلى جهة منها وبرد وليس لماء المطر دخل فيه، وكونه من السماء باعتبار أن لأشعة الكواكب التي فيها مدخلًا فيه من حيث الفاعلية.وقال ابن سينا في نجاته: هذه الأبحرة المحتبسة في الأرض إذا انبعث عيونًا أمدت البحار بصب الأنهاء إليها ثم ارتفع من البحار والبطائح وبطون الجبال خاصة أبخرة أخرى ثم قطرت ثانيًا إليها فقامت بدل ما يتحلل منها على الدور دائمًا.وما في الآية يؤيد مال ذهب إليه أبو البركات البغدادي منهم فقد قال في المعتبر: إن السبب في العيون والقنوات وما يجري مجراها هو ما يسيل من الثلوج ومياه الأمطار لأنا نجدها تزيد بزيادتها وتنقص بنقصانها وإن استحالة ألاهوية والأبخرة المنخصرة في الأرض لا مدخل لها في ذلك فإن باطن الأرض في الصيف أشد بردًا منه في الشتاء فلو كان ذلك سبب استحالتها لوجب أن تكون العيون والقنوات ومياه الآبار في الصيف أزيد وفي الشتاء أنقص مع أن الأمر بخلاف ذلك على ما دلت عليه التجربة انتهى، واختار القاضي حسين المبيدي أن لكل من الأمرين مدخلًا، واعترض على دليل أبي البركات بأنه لا يدل إلا على نفي كون تلك الاستحالة سببًا تامًا وأما على أنها لا مدخل لها أصلًا فلا.والحق ما يشهد له كتاب الله تعالى فهو سبحانه أعلم بخلقه، وكل ما يذكره الفلاسفة في أمثال هذه المقالات لا دليل لهم عليه يفيد اليقين كما أشار إليه شارح حكمة العين، وقيل: المراد بهذا الماء ماء أنهار خمسة، فقد روي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «أنزل الله تعالى من الجنة إلى الألاض خمسة أنهار سيحون وهو نهر الهند وجيحون وهو نهر بلخ. ودجلة والفرات. وهما نهرا العراق. والنيل وهو نهر مصر أنزلها الله تعالى من عين واحدة من عيون الجنة من أسفل درجة من درجاتها على جناحي جبريل عليه السلام فاستودعها الجبال وأجراها في الأرض وجعلها منافع للناس في أصناف معايشهم وذلك قوله تعالى: {وَأَنزَلْنَا مِنَ السماء مَاء بِقَدَرٍ فَأَسْكَنَّاهُ في الأرض} فإذا كان عند خروج يأجوج ومأجوج أرسل الله تعالى جبريل عليه السلام فرفع من الأرض القرآن والعلم كله والحجر من ركن البيت ومقام إبراهيم عليه السلام وتابوت موسى عليه السلام بما فيه وهذه الأنهار الخمسة فيرفع كل ذلك إلى السماء فذلك قول الله تعالى: {وَإِنَّا على ذَهَابٍ لقادرون} فإذا رفعت هذه الأشياء من الأرض فقد أهلها خير الدنيا والآخرة» ولا يخفي على المتتبع أن هذا الخبر أخرجه ابن مردويه.والخطيب بسند ضعيف، نعم حديث: «أربعة أنهار من الجنة سيحان. وجيحان وهما غير سيحون وجيحون لأنهما نهران بالعواصم عند المصيصة وطرسوس وسيحون وجيحون نهر الهند وبلخ» كما سمعت على ما قاله عبد البر «والفرات والنيل» صحيح لكن الكلام في تفسير الآية بذلك.وعن مجاهد أنه حمل الماء على ما يعم ماء المطر وماء البحر وقال: ليس في الأرض ماء إلا وهو من السماء، وأنت تعلم أن الأوفق بالاخبار وبما يذكر بعد في الآية الكريمة كون المراد به ما عدا ماء البحر.{وَإِنَّا على ذَهَابٍ بِهِ} أي على إزالته بإخراجه عن المائية أو بتغويره بحيث يتعذر استخراجه أو بنحو ذلك {لقادرون} كما كنا قادين على إنزاله، فالجملة في موضع الحال.وفي تنكير {ذَهَابٍ} إيماء إلى كثرة طرقه لعموم النكرة وإن كانت في الإثبات وبواسطة ذلك تفهم المبالغة في الإثبات، وهذه الآية أكثر مبالغة من قوله تعالى: {قُلْ أَرَءيْتُمْ إِنْ أَصْبَحَ مَاؤُكُمْ غَوْرًا فَمَن يَأْتِيكُمْ بِمَاء مَّعِينٍ} [الملك: 30].وذكر صاحب التقريب ثمانية عشر وجهًا للأبلغية، الأول أن ذلك على الفرض والتقدير، وهذا الجزم على معنى أنه أدلة على تحقيق ما أوعد به وإن لم يقع.الثاني التوكيد بأن.الثالث اللام في الخبر.الرابع أن هذه في مطلق الماء المنزل من السماء وتلك في ماء مضاف إليهم.الخامس أن الغائر قد يكون باقيًا بخلاف الذاهب.السادس في تنكير {ذَهَابٍ} من المبالغة.السابع إسناده هاهنا إلى مذهب بخلافه ثمت حيث قيل {غَوْرًا} [الملك: 30].الثامن ما في ضمير المعظم نفسه من الروعة.التاسع ما في {قَادِرُونَ} من الدلالة على القدرة عليه والفعل الواقع من القادر أبلغ.العاشر ما في جمعه.الحادي عشر ما في لفظ {بِهِ} من الدلالة على أن ما يمسكه فلا مرسل له، الثاني عشر إخلاؤه من التعقيب باطماه وهنالك ذكر الإتيان المطمع.الثالث عشر تقديم ما فيه الإيعاد وهو الذهاب على ما هو كالمتعلق له أو متعلقة على المذهبين البصري والكوفي.الرابع عشر ما بين الجملتين الاسمية والفعلية من التفاوت ثباتًا وغيره.الخامس عشر ما في لفظ {أَصْبَحَ} من الدلالة على الانتقال والصيرورة.السادس عشر أن الاذهاب هاهنا مصرح به.وهنالك مفهوم من سياق الاستفهام.السابع عشر أن هنالك نفي ماء خاص أعني المعين بخلافه ههنا.الثامن عشر اعتبار مجموع هذه الأمور التي يكفي كل منها مؤكدًا.ثم قال: هذا ما يحضرنا الآن والله تعالى أعلم. اهـ.وفي النفس من عد الأخير وجهًا شيء.وقد يزاد على ذلك فيقال: التاسع عشر اخباره تعالى نفسه به من دون أمر للغير هاهنا بخلافه هنالك فإنه سبحانه أمر نبيه عليه الصلاة والسلام أن يقول ذلك.العشرون عدم تخصيص مخاطب هاهنا وتخصيص الكفار بالخطاب هنالك.الحادي والعشرون التشبيه المستفاد من جعل الجملة حالًا كما أشرنا إليه فإنه يفيد تحقيق القدرة ولا تشبيه ثمت.الثاني والعشرون إسناد القدرة إليه تعالى مرتين، وقد زاد بعض أجلة أهل العصر العاصرين سلاف التحقيق من كلام أذهانهم الكريمة أكرم عصر أعني به ثالث الرافعي والنواوي أخي الملأ محمد أفندي الزهاوي فقال: الثالث والعشرون تضمين الايعاد هنا إيعادهم بالأبعاد عن رحمة الله تعالى لأن ذهب به يستلزم مصاحبة الفاعل المفعول وذهاب الله تعالى عنهم مع الماء بمعنى ذهاب رحمته سبحانه عنهم ولعنهم وطردهم عنها ولا كذلك ما هناك.الرابع والعشرون أنه ليس الوقت للذهاب معينًا هناك بخلافه في {إِنْ أَصْبَحَ} [الملك: 30] فإنه يفهم منه أن الصيرورة في الصبح على أحد استعمالي أصبح ناقصًا.الخامس والعشرون أن جهة الذهاب به ليست معينة بأنها السفل.السادس والعشرون ان الإيعاد هنا بما لم يبتلوا به قط بخلافه بما هنالك.السابع والعشرون إن الموعد به هنا إن وقع فهم هالكون البتة.الثامن والعشرون أنه لم يبق هنا لهم متشبث ولو ضعيفًا في تأميل امتناع الموعد به وهناك حيث أسند الأصباح غورًا إلى الماء ومعلوم إن الماء لا يصبح غورًا بنفسه كما هو تحقيق مذهب الحكيم أيضًا احتمل أن يتوهم الشرطية مع صدقها ممتنعة المقدم فيأمنوا وقوعه.التاسع والعشرون أن الموعد به هنا يحتمل في بادي النظر وقوعه حالًا بخلافه هناك فإن المستقبل متعين لوقوعه لمكان {إن} وظاهر أن التهديد بمحتمل الوقوع في الحال أهول ومتعين الوقوع في الاستقبال أهون.الثلاثون أن ما هنا لا يحتمل غير الإيعاد بخلاف ما هناك فإنه يحتمل ولو علم بعد أن يكون المراد به الامتنان بأنه {إِنْ أَصْبَحَ مَاؤُكُمْ غَوْرًا} [الملك: 30] فلا يأتيكم بماء معين سوى الله تعالى، ويؤيده ما سن بعده من قول الله ربنا ورب العالمين انتهى فتأمل ولا تغفل والله تعالى الهادي لأسرار كتابه.واختيرت المبالغة هاهنا على ما قاله بعض المحققين لأن المقام يقتضيها إذ هو لتعداد آيات الآفاق والأنفس على وجه يتضمن الدلالة على القدرة والرحمة مع كمال عظمة المتصف بهما ولذا ابتدىء بضمير العظمة مع التأكيد بخلاف ما ثمت فإنه تتميم للحث على العبادة والترغيب فيها وهو كاف في ذلك.{فَأَنشَأْنَا لَكُمْ بِهِ} أي بذلك الماء وهو ظاهر فيما عليه السلف، وقال الخلف: المراد أنشأنا عنده {جنات مّن نَّخِيلٍ وأعناب} قدمهما لكثرتهما وكثرة الانتفاع بهما لا سيما في الحجاز والطائف والمدينة {لَكُمْ فِيهَا} أي في الجنات {فواكه كَثِيرَةٌ} تتفكهون بها وتتنعمون زيادة على المعتاد من الغذاء الأصلي، والمراد بها ما عدا ثمرات النخيل والأعناب.{وَمِنْهَا} أي من الجنات والمراد من زروعها وثمارها، ومن ابتدائية وقيل إنها تبعيضية ومضمونها مفعول {تَأْكُلُونَ} والمراد بالأكل معناه الحقيقي.وجوز أن يكون مجازًا أو كناية عن التعيش مطلقًا أي ومنها ترزقون وتحصلون معايشكم من قولهم فلان يأكل من حرفته، وجوز أن يعود الضميران للنخيل والأعناب أي لكن في ثمراتها أنواع من الفواكه الرطب والعنب والتمر والزبيب والدبس من كل منهما وغير ذلك وطعام تأكلونه فثمرتهما جامعة للتفكه والغذاء بخلاف ثمرة ما عداهما وعلى هذا تكون الفاكهة مطلقة على ثمرتهما.وذكر الراغب في الفاكهة قولين: الأول أنها الثمار كلها، والثاني أنها ما عدا العنب والرمان، وصاحب القاموس اختار الأول وقال: قول مخرج التمر والرمان منها مستدلًا بقوله تعالى: {فِيهِمَا فاكهة وَنَخْلٌ وَرُمَّانٌ} [الرحمن: 68] باطل مردود، وقد بينت ذلك مبسوسًا في اللامع المعلم العجاب اه؛ وأنت تعلم أن للفقهاء خلافًا في الفاكهة فذهب الإمام أبو حنيفة إلى أنها التفاح والبطيخ والمشمش والكمثري ونحوها لا العنب والرمان والرطب، وقال صاحباه: المستثنيات أيضًا فاكهة وعليه ال فتوى، ولا خلاف كما في القهستاني نقلًا عن الكرماني في أن اليابس منها كالزبيب والتمر وحب الرمان ليس بفاكهة.وفي الدر المختار أن الخلاف بين الإمام وصاحبيه خلاف عصر فالعبرة فيمن حلف لا يأكل الفاكهة العرف فيحنث بأكل ما يعد فاكهة عرفًا ذكر ذلك الشمني وأقره الغزي، ولا يخفى أن شيئًا واحدًا يقال له فاكهة في عرف قوم ولا يقال له ذلك في عرف آخرين، ففي النهر عن المحيط ما روي من أن الجوز واللوز فاكهة فهو في عرفهم أما في عرفنا فإنه لا يؤكل للتفكه. اهـ. ثم إني لم أر أحدًا من اللغويين ولا من الفقهاء عد الدبس فاكهة فتدبر ولا تغفل. اهـ.
|